فصل: القَوْل فِي تَرْجِيح الْعِلَل وطرقها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.القَوْل فِي الِاسْتِحْسَان وَالرَّدّ على الْقَائِلين بِهِ:

اعْلَم إِن مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء: تتبع الْأَدِلَّة وَبِنَاء الْأَحْكَام عَلَيْهَا، وَإِبْطَال الِاسْتِحْسَان إِذا لم يَتَرَتَّب على قَاعِدَة من قَوَاعِد الْأَدِلَّة. وَإِلَيْهِ صَار مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا حَتَّى قَالَ الشَّافِعِي "من اسْتحْسنَ فَكَأَنَّمَا يشرع فِي الدّين".
واشتهر عَن أبي حنيفَة القَوْل بالاستحسان، ثمَّ اخْتلف أصحابه فجماهير بَعضهم بِالْخِلَافِ وَقَالَ: هُوَ ترك الْقيَاس بِمَا يستحسن عقلا. وَلَيْسَ على المستحسن إِقَامَة دلَالَة توجه عَلَيْهَا القوادح. وَإِنَّمَا هُوَ تلويح يعن فِي الْعقل.
وَقَالَ بَعضهم الِاسْتِحْسَان إمالة فرع إِلَى أصل هُوَ ادّعى بِهِ. قَالُوا: وَمعنى ذَلِك إِنَّه تَخْصِيص الْعلَّة لِمَعْنى تَقْتَضِيه على قَوْلهم بِجَوَاز تَخْصِيص الْعِلَل.
وَقَالَ الْكَرْخِي من متأخرى أصحاب أبي حنيفَة الِاسْتِحْسَان ترك مَا يقدر دَلِيلا، بِمَا هُوَ أقوى مِنْهُ وَإِن يكون المستحسن غير مطَالب بِدَلِيل يَصح على مُقْتَضى السّير.
ثمَّ إِنَّه مثل ذَلِك بأمثلة: فَقَالَ: إِذا طردنا عِلّة فاقتضت تِلْكَ الْعلَّة حكما فِي موردها بِخِلَاف مُوجب الْقيَاس.... قد يكون ذَلِك كتابا أَو سنة أَو اتِّفَاقًا أَو وَجها من الِاسْتِدْلَال وَالِاعْتِبَار.
فَأَما مَا اقْتضى الظِّهَار، وَفِيه الْعدْل عَن الْقيَاس فَهُوَ نَحْو خبر القهقهة ونبيذ التَّمْر.
فالتمسك بالْخبر أحسن .
وَكَذَلِكَ الْقيَاس يَقْتَضِي تَخْصِيص الاجتزاء بالتعاطي فِي المستحقرات، من غير إِنْكَار مِمَّن سبق وَبَقِي. فالتمسك بِهِ أحسن من طرد الْقيَاس.
وَأما مَا ترك فِيهِ الْقيَاس بِضَرْب من الِاسْتِدْلَال فنحو قَوْلهم: إِن من قَالَ: إِن فعلت كَذَا فَأَنا يَهُودِيّ. فَتلْزمهُ الْكَفَّارَة. فَإِن الْقيَاس - وَإِن اقْتضى - أَن لَا يَجْعَل ذَلِك يَمِينا فقد علمنَا إِن الْكَفَّارَة، إِنَّمَا وَجَبت فِي الْيَمين للتعرض لهتك الْحُرْمَة. والتبري من الدّين أعظم مِنْهُ إِلَى غير ذَلِك، فَجَائِز ثُبُوته.
فَإِذا أحطت علما بِمَا قُلْنَاهُ، فَوجه الْكَلَام فِي ذَلِك أَن نقُول: من زعم مِنْهُم أَنا نحيد من دَلِيل إِلَى دَلِيل هُوَ أقوى مِنْهُ وَهُوَ مِمَّا يظْهر ويعترض عَلَيْهِ وَيُجَاب عَن الاعتراضات فِيهِ فَلَا خلاف مَعَ هَؤُلَاءِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي تَرْجِيح الْأَدِلَّة وإفسادها على مَا سبق من مَرَاتِب الْأَدِلَّة وَسَيَأْتِي طَرِيق التَّرْجِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَأَما من يلْتَزم مِنْهُم إِقَامَة الدّلَالَة، فَهُوَ الَّذِي نقصد بالْكلَام، فَيُقَال: أَجمعت الْأمة قاطبة على إِن من قَالَ قولا بِغَيْر دَلِيل أَو أَمارَة مَنْصُوبَة شرعا فَالَّذِي يتَمَسَّك بِهِ بَاطِل.
ثمَّ اجْمَعُوا على بطلَان اتِّبَاع الْهوى ومحصول مَا قلتموه ترك الدَّلِيل بِغَيْر دَلِيل. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ لكل عَامي أَن يستحسن من غير وَجه الِاسْتِدْلَال ويرجح فِي طرق الْأَدِلَّة.
فَإِن قَالَ قَائِل: أفتدركون بطلَان ذَلِك عقلا.
قُلْنَا: حاشا أَن نقُول ذَلِك! إِذْ يسوغ فِي الْعقل تَجْوِيز مَا يخْطر للْعُلَمَاء وَغَيرهم اعلاما على أَحْكَام الله تَعَالَى لَو نصبت اعلاما، كَمَا نصبت غلبات الظنون اعلاما وَلَكِن اجمعت الْأمة على بطلَان ذَلِك. وَلَا تَجْتَمِع الْأمة على الضَّلَالَة، وَلَقَد قُلْنَا مَا قُلْنَاهُ شرعا. على أَنا نقُول لكل مستحسن بِمَ تنكر على من يستحسن ضد مَا استحسنت؟ فَلَا يجد لَهُ مدفعا.
فَإِن سلك طرق التَّرْجِيح وَالِاسْتِدْلَال، فقد خرج عَن الِاسْتِحْسَان إِلَى طلب الدَّلِيل.
وَقد تمسك من صمم مِنْهُم على الْخُلُو فِي القَوْل بالاستحسان بظواهر الْكتاب مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه}، وَقَوله: {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم}. قَالُوا: فَهَذَا أَمر بِالْأَخْذِ بالأحسن.
قُلْنَا: ثبتوا أَولا كَون مَا قلتموه منزلا، ثمَّ رتبوا عَلَيْهِ تخير الْأَحْسَن وإيثاره. فَإِن الظَّاهِر من الْقُرْآن يدل على الْأَخْذ بالأحسن مِمَّا أنزل. على أَنا نقُول: فثبتوا إِن المُرَاد بِهِ الْأَحْسَن فِي توهم كل مستحسن وَبِمَ تنكرون على من يزْعم إِن الْأَحْسَن فِي الشَّرْع هُوَ الَّذِي يلائم الْأَدِلَّة ثمَّ نعارض هَذِه الْآيَة بِالْآيِ الَّتِي فِيهَا الْأَمر بِطَلَب الْأَدِلَّة. نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَقَوله تَعَالَى: {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم}، وَقَوله تَعَالَى: {أَفلا يتدبون القرءان}... إِلَى غير ذَلِك وَقد أطنب الْأصحاب فِي طرق الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَرَأَيْت الْقدر الَّذِي ذكرنَا كَافِيا فِي مَقْصُوده.

.القَوْل فِي جَوَاز تَعْلِيل مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الأَصْل:

إِذا اطرد ضرب من الْقيَاس فِي أصُول، ثمَّ ثَبت أصل كتاب أَو سنة أَو وفَاق، وَهُوَ على خلاف قِيَاس الْأُصُول، فَهَل يسوغ استنباط عِلّة مِمَّا ورد، ليجمع بهَا بَين الْفَرْع وَالْأَصْل الْوَارِد على خلاف قِيَاس الْأُصُول.
مَا صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة فِي أصح الرِّوَايَات، وَغَيرهمَا من الْعلمَاء جَوَاز الْقيَاس عَلَيْهَا وَذهب بعض الْمُتَأَخِّرين من أصحاب أبي حنيفه كالكرخي وَغَيره إِلَى أَن لَا يُقَاس على مَا هَذَا سَبيله. فمنعوا الْقيَاس على مثل القهقهة فِي الصَّلَاة فِي كَونهَا مبطلة للطَّهَارَة، وَكَذَلِكَ نَبِيذ التَّمْر. منعُوا الْقيَاس عَلَيْهِ.
وَالدَّلِيل على جَوَاز الْقيَاس فَرضنَا الْكَلَام فِيهِ، أَن نقُول: قد ثَبت أصل الْقيَاس بِالدّلَالَةِ القاطعة، وسبيل الْقيَاس فِي الْمُخْتَلف فِيهِ كسبيل كل قِيَاس. فَإِن تَقْدِير عِلّة فِي الأَصْل مِمَّا لَا يبعد عقلا. وَلَا يمْنَع مِنْهُ مَانع شرعا، إِذا استجمعت شَرَائِط الصِّحَّة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، إِن الْقيَاس المطرد إِنَّمَا سَاغَ التَّمَسُّك بِهِ لكَونه مستنبطا من أصُول ثَابِتَة. وَالْأَصْل الَّذِي فِيهِ نتكلم، أحد الْأُصُول الثَّابِتَة. فَلَا مَانع من الاستنباط مِنْهَا، كَمَا لَا مَانع من الاستنباط من كل أصل قدروه.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك اتِّفَاقًا على جَوَاز وُرُود الشَّرْع بتعليل مثل هَذَا الأَصْل. فَإِذا سَاغَ وُرُود الشَّرْع بتعليله سَاغَ تطلب جملَته بطرِيق الاستثارة والاستنباط.
وَمِمَّا نتمسك بِهِ أَيْضا أَن نقُول: إِذا وَردت لَفْظَة عَامَّة عَن صَاحب الشَّرِيعَة وَقَامَت دلَالَة على تخصيصها، فَلَا خلاف فِي جَوَاز الاستنباط مِمَّا خص عَن الْعُمُوم وَإِن أفْضى الاستنباط إِلَى الزِّيَادَة بالتخصيص، فَهُوَ سَائِغ فَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك فَمَا الْمَانِع مِمَّا نَحن فِيهِ؟
وَقد عولوا فِي منع الْقيَاس فِي الْمُخْتَلف فِيهِ على أَن قَالُوا: إِذا طردنا قِيَاس الْأُصُول وطرد طارد الْقيَاس بِمَا شَذَّ عَن الْأُصُول فَإِن كَانَ قِيَاس الْأُصُول أقوى فيلزمكم ترك الضَّرْب الآخر. وَكَذَلِكَ إِن كَانَ مثله. فَإِن تعَارض الْعِلَل يبطل الِاحْتِجَاج بهَا ويستحيل أَن يكون الْقيَاس المستنبط من الأَصْل الشاذ أقوى.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تحكم وَبِنَاء على مُجَرّد الدَّعْوَى، فَلَا نسلم لكم معنى الشذوذ فَإِن كل مَا ثَبت، فَهُوَ أصل فِي نَفسه. وَعدد الْأُصُول لَا يُغير أَحْكَام المغير على مَا سَنذكرُهُ فِي أَحْكَام التَّرْجِيح. فعلى هَذَا لَا يمْتَنع أَن يكون الْقيَاس المستنبط من هَذَا الأَصْل أقوى من غَيره. وشأن النَّاظر أَن يعرض علته على مَا بِهِ تمتحن الْعِلَل. فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.

.فصل: لَا يجوز ترك الْخَبَر الصَّحِيح إِذا ورد بِخِلَاف قِيَاس الْأُصُول:

فِي متعسفي أصحاب أبي حنيفَة من ترك الْخَبَر الصَّحِيح، إِذا ورد بِخِلَاف قِيَاس الْأُصُول. وَلذَلِك ردوا خبر الْمُصراة والعرايا وَهَذَا مِمَّا لم يحدثه إِلَّا من نبغ من نابغيهم وَهِي مشابهة مِنْهُم لمنكري الْأَخْبَار.
فَنَقُول لَهُم: قد أَقَمْنَا الدّلَالَة على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَهَذَا قد استجمع شَرَائِط الصِّحَّة، وَالْقِيَاس على التَّحْقِيق تَقْدِير خبر فَإِن القائس يغلب على ظَنّه، إِن مَا نَصبه عِلّة، قد نَصبه صَاحب الشَّرِيعَة عِلّة، فالنص الْمُصَرّح بِهِ أولى من خبر مُقَدّر فافهمه واجتز بِهِ.
على أَنا نقُول: لَا تَحْصِيل لما قلتموه من الْأُصُول فَكل مَا يثبت بِدلَالَة شَرْعِيَّة فَهُوَ أصل فَلَا يبْقى مَعَهم إِلَّا عدد الْأُصُول. وسنتكلم على بطلَان الِاعْتِبَار بهَا ثمَّ نقُول: فَمَا وَجه قبولكم لخَبر نَبِيذ التَّمْر وَخبر القهقهة؟ وَلَو اتبعت طرقهم لوجتهم دارين لكل خبر صَحِيح، متسرعين إِلَى قَول كل ضَعِيف وَعند ذَلِك يهذون بأصول الْقيَاس وَقِيَاس الْأُصُول فَيَقُولُونَ: تركْتُم فِي مَسْأَلَة الْمُصراة أصُول الْقيَاس، وَنحن تركنَا فِي القهقهة قِيَاس الْأُصُول.
فَيُقَال لَهُم: أصُول الْقيَاس الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فأوضحوا لنا مخالفتنا لشَيْء مِنْهَا فِي مَسْأَلَة الْمُصراة. وَهَذَا أوضح من أَن يحْتَاج فِيهِ إِلَى بَيَان وَالْأولَى أَن نشغل كتَابنَا هَذَا بترهات من لَا يحصل هَذَا الْفَنّ.

.فصل:

إِذا اقْتصر على الِاسْتِدْلَال وحكموا بِصِحَّتِهَا وَنحن نشِير إِلَيْهِمَا فأحدهما: التَّقْسِيم الصَّحِيح. وَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة أَقسَام فَإِذا بَين الْمُسْتَدلّ بطلَان جَمِيعهَا إِلَّا الْقسم الَّذِي يرتضيه فَيثبت مَقْصُوده.
قَالُوا: وَمِثَال ذَلِك أَن نقُول فِي مَسْأَلَة الصُّلْح على الْإِنْكَار، المَال المبذول لَا يَخْلُو أما أَن يكون مُقَابلا للشَّيْء أَو لَا يكون مُقَابلا لشَيْء وباطلا إِلَّا يكون مُقَابلا، فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ سَبيله سَبِيل التَّبَرُّعَات والهبات. وَقد اتَّفقُوا على خِلَافه. فَإِذا كَانَ مُقَابلا للشَّيْء، لم يخل أما أَن يُقَابل الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَة فَيبْطل، إِذْ لَو جَازَ ذَلِك، لجازت الْمُصَالحَة على دَعْوَى حد الْقَذْف وَإِمَّا أَن يكون مُقَابلا بالتحليف الَّذِي يثبت للْمُدَّعِي وَذَلِكَ بَاطِل. لإنهم قَالُوا بِصِحَّة الصُّلْح فِي دَعْوَى النِّكَاح، وَإِن لم يَصح عِنْدهم فِيهَا تَحْلِيف، فَثَبت إِن المَال المبذول، مُقَابل بِالْمَالِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي وَأنْكرهُ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ. وَهُوَ مَال لم يثبت فِيهِ ملك الْمُدَّعِي، فيستحيل لُزُوم الِاعْتِيَاض عَنهُ، فَهَذَا هُوَ وَجه فِي الِاسْتِدْلَال. وَقد صَححهُ أَرْبَاب الْأُصُول وَلم يتَعَرَّض لَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.
فَالصَّحِيح فِي ذَلِك عندنَا، على قِيَاس أُصُوله أَن نقُول: إِذا اشْتَمَلت الْمَسْأَلَة على أَقسَام، فأوضح المسؤول إِبْطَالهَا بآي من كتاب الله تَعَالَى أَو سنة من سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو تمسك فِي بَعْضهَا بالِاتِّفَاقِ، فيسوغ ذَلِك مِنْهُ.
وَأما إِذا رام إِبْطَاله ابْتِدَاء بِضَرْب من الِاعْتِبَار، مثل أَن يَقُول: لَو كَانَ مُقَابلا بِدَعْوَى، لوُجُوب أَن يَصح الصُّلْح عَن دَعْوَى حد الْقَذْف، فَمثل هَذَا الْكَلَام لَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال فِي الِاسْتِدْلَال. وَقد صَححهُ مُعظم أَرْبَاب الْأُصُول فِي الِاسْتِدْلَال.
وللخصم أَن يَقُول: فَمَا الْجَامِع بَين الدعوتين ثمَّ إِذا جمع بَينهمَا فَلهُ مُطَالبَته بتثبيت عِلّة الأَصْل وكل مَا يُطَالب الْمُحَرر بِهِ. فَإِن أَرَادَ الَّذين قَالُوا بتصحيح هَذَا الضَّرْب فِي الِاسْتِدْلَال أَن يجوزه لكل اعْتِبَار يتَمَسَّك بِهِ فِي أَقسَام. فَهَذَا سديد وَلكنه تمسك بِالْقِيَاسِ وَلَا يَسْتَقِيم إنشاؤه مِنْهُم. وَإِن جوزوا الِاسْتِدْلَال بِهِ من غير تَحْرِير فَلَا نرى ذَلِك صَحِيحا وَهَذَا بَين إِذا تأملته. فَهَذَا أحد الضربين فِي الِاسْتِدْلَال.
وَالضَّرْب الثَّانِي الِاسْتِدْلَال بِالْأولَى، فقد صَححهُ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ ومثاله: أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ فِي مَسْأَلَة التَّيَمُّم، إِن التَّيَمُّم لَا يَصح لصَلَاة الْجِنَازَة مَعَ وجود المَاء، إِذا لم يَصح التَّيَمُّم خوفًا أولى من صَلَاة الْجَمَاعَة فَلِأَن لَا يجوز ذَلِك فِي صَلَاة الْجِنَازَة أولى.
وكما قَالَ الشَّافِعِي، إِذا وَجَبت الْكَفَّارَة فِي الْقَتْل خطأ، فَلِأَن تجب فِي الْعمد أولى. وَهَذَا الضَّرْب فِيهِ نظر أَيْضا. فَإِن للخصم أَن يَقُول: لم زعمت إِن التَّيَمُّم إِذا لم يجز لخوف فَوَات وَقت صَلَاة الْجَمَاعَة فَلَا يجوز لخوف فَوَات صَلَاة الْجِنَازَة، فيطالبه بِالْجمعِ وَيُوجه عَلَيْهِ القوادح فَلَا يمنعهُ من ذَلِك مَانع، فَلم يسْتَقلّ الأول فِي أَن يكون دَلِيلا بل هُوَ ضرب من التَّرْجِيح على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله.

.القَوْل فِي تَرْجِيح الْعِلَل وطرقها:

اعْلَم، وفقك الله، إِن التَّرْجِيح إِنَّمَا يَقع فِي الأمارات الَّتِي تَقْتَضِي غلبات الظنون، فَإِذا تَعَارَضَت مِنْهَا عِلَّتَانِ، فالمجتهد مُكَلّف بِأَن يرجح إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى.
وَالدَّلِيل على ثُبُوت التَّرْجِيح، هُوَ الدَّلِيل على ثُبُوت أصل الْقيَاس فَإِن الَّذِي عولنا عَلَيْهِ فِي إثْبَاته إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَكلما علمنَا تمسكهم بالأقيسة، فَكَذَلِك علمنَا تعلقهم بترجيح بَعْضهَا على بعض بِذكر وُجُوه الشّبَه وَغَيرهَا من ضروب التَّرْجِيح فَإِذا ثَبت التَّمَسُّك بِأَصْل التَّرْجِيح. وَقد أكثروها وَنحن نشِير إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِلَى جمل ترشد إِلَى أَمْثَالهَا.
فَمن أقوى مَا يَقع بهَا التَّرْجِيح أَن تكون إِحْدَى العلتين مُوَافقَة لكتاب الله تَعَالَى أَو سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لقَوْل صَحَابِيّ، عِنْد من يرى الِاحْتِجَاج بقول الصَّحَابِيّ.
وَمِمَّا يقوى التَّرْجِيح بِهِ أَن تكون إِحْدَى العلتين منصوصة وَالْأُخْرَى مستنبطة بِالِاجْتِهَادِ.
وَمِمَّا يَقع بِهِ التَّرْجِيح انعكاس الْعلَّة. وَهُوَ أَن يَنْتَفِي الحكم بانتفائها، فيغلب على الْقلب كَون الحكم مَنُوطًا بِهِ.
وَمن ضروب التَّرْجِيح أَن يكون الحكم أحد الْأَصْلَيْنِ ثَابتا قطعا وَالْحكم فِي الأَصْل الثَّانِي مُخْتَلف فِيهِ على الْجُمْلَة وَإِن اتّفق الخصمان فَإِنَّهُ مَحل اجْتِهَاد والمجتهد لَا يوازي التَّمَسُّك بِالْقطعِ، فَلَو قَالَ الْخصم لخصمه، قد اتفقنا على حكم الأَصْل، فَلَا يقْدَح خلاف من خَالف فَيُقَال لَهُ. إِنَّمَا وَقع التَّرْجِيح بِالْقطعِ وَعدم الْقطع، واتفاقنا على حكم الأَصْل لَا يلْحقهُ بالقطعيات.
وَمن ضروب التَّرْجِيح أَن يكون أصل أحد القائسين، ثَابتا من غير قِيَاس وأصل قِيَاس ثَابتا بِقِيَاس. فَالَّذِي ثَبت أَصله نصا، أقوى وَهَذَا يداني الَّذِي فَرغْنَا مِنْهُ.
وَمن ضروب التَّرْجِيح، أَن يستنبط أثنان من مُسَمّى بإسم مُطلق فِي الشَّرِيعَة فيخصص أَحدهمَا الأَصْل الْمُطلق فِي موارد استنباط الْعلَّة وَلَا يخصصه الثَّانِي فَالَّذِي لَا يخصص أولى.
وَذَلِكَ نَحْو استنباط الشَّافِعِي من الْبر كَونه مطعوما واستنباط أبي حنيفَة كَونه مَكِيلًا. مَعَ علمنَا بإن هَذِه الْعلَّة تسوقه إِلَى الرِّبَا فِيمَا لَا يحصره الْكَيْل. فَهَذَا وَجه قوي فِي التَّرْجِيح. وَمن طرق التَّرْجِيح الأول كَمَا قدمْنَاهُ.
وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَى العلتين صفة محسوسة، وَالْأُخْرَى حكما فَمن النَّاس من زعم أَن المحسوسة أولى وَمِنْهُم من زعم إِن الحكم أولى. فَإِن الْمَقْصد من الْقيَاس الحكم. وإلحاق الحكم بالحكم أولى. وَهَذِه مَسْأَلَة اجْتِهَاد وكل مؤاخذ فِيهَا بِمَا يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَيْهِ.
وَمِنْهَا أَن تكون عِلّة أَحدهمَا بِحَيْثُ لَا يسبقها الحكم الَّذِي ناط بهَا وَالْعلَّة الثَّانِيَة يسبقها حكمهَا وَذَلِكَ نَحْو قَوْلنَا فِي ثُبُوت نَجَاسَة الْكَلْب حَيَوَان نجس فِي حَيَاته أَو نجس السُّور، فَلَا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير. فَهَذَا مقدم على قَول أصحاب أبي حنيفَة، إِذْ قَالُوا: حَيَوَان يجوز الِانْتِفَاع بِهِ. فَإِن حكم الدّباغ قد يثبت قبل أَن يبلغ مبلغ الِانْتِفَاع. فالعلة الَّتِي يساوقها الحكم، أولى وَأظْهر تَأْثِيرا وَهَذَا يداني مَا قدمْنَاهُ من التَّرْجِيح بالانعكاس.
وَمِنْهَا التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَشْبَاه، على مَا قدمْنَاهُ فِي أَقسَام الْقيَاس وَإِلَّا ظهر إِنَّا وَإِن لم نجوز التَّمَسُّك بِهِ ابْتِدَاء، فَيجوز التَّرْجِيح بِهِ.
وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا مفسرة فِي مقصودها، وَالْأُخْرَى مُبْهمَة نَحْو أَن نقُول: أفطر بِغَيْر جماع، فَلَا تلْزمهُ الْكَفَّارَة، فَهَذَا أولى من قَول الْحَنَفِيّ أفطر بممنوع جنسه لما فِيهِ من الْإِبْهَام .
وَمِنْهَا أَن تَقْتَضِي إِحْدَى العلتين النَّقْل عَن الْعَادة، وَالْأُخْرَى الْبَقَاء عَلَيْهَا فَمن النَّاس من جعل الناقلة أولى وَمِنْهُم من جعل المبقية أولى، وَلكُل قَول وَجه. وَلَا يبلغان الْقطع، لنطنب فِيهِ.
وَمِنْهَا: أَن يكون مَحل الِاجْتِهَاد عبَادَة يحْتَاط لَهَا. فالتمسك بِالْعِلَّةِ الَّتِي تَتَضَمَّن الِاحْتِيَاط أولى. وَمِنْهُم من قَالَ: التَّمَسُّك بِالَّتِي توجب بَرَاءَة الذِّمَّة أولى.
وعَلى هَذَا اخْتلفُوا فِي علتين توجب إِحْدَاهمَا حدا وَالْأُخْرَى تدرأه فَمنهمْ من قَالَ: الَّتِي تدرأ الْحَد أولى، فَإِن الْحُدُود تدرأ بِالشُّبُهَاتِ.
وَمِنْهُم من قَالَ: الَّتِي تثبت أولى، لاشتمالها على زِيَادَة حكم. وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا حاظرة مُحرمَة. وَالْأُخْرَى مبيحة.
فَمنهمْ من جعل الحاظرة أولى لاشتمالها على زِيَادَة حكم، وَالأَصَح أَن لَا يَقع بذلك تَرْجِيح. فَإِن الْحل حكم، كَمَا أَن التَّحْرِيم حكم.
وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا متعدية وَالْأُخْرَى قَاصِرَة. فقد اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَمنهمْ من جعل المتعدية أولى، لاشتمالها على زِيَادَة حكم.
وَمِنْهُم من لم ير تَرْجِيح المتعدية وغلا بعض أصحابنَا فرجح القاصرة على المتعدية، من حَيْثُ لَزِمت أَصْلهَا، وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام.
وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَى العلتين مستوعبة لأطراف الْمَسْأَلَة. وَالْأُخْرَى مُخْتَصَّة بِبَعْضِهَا وَيجمع ضروبا من التَّرْجِيح فصل وَاحِد. وَهُوَ أَن تشْتَمل إِحْدَى العلتين على زِيَادَة حكم، فالمشتملة على الزِّيَادَة أولى عِنْد بَعضهم.
وَأَشَارَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَنه لَا يَقع بذلك التَّرْجِيح. فَإِن زِيَادَة الحكم لَيْسَ من علم الصِّحَّة إِذْ الْمُعَلل مطَالب بتصحيح علته. سَوَاء انطوت على حكم أَو على أَحْكَام.
وَمِمَّا خَاضَ فِيهِ الخائضون كَثْرَة الْأُصُول. مثل أَن تنطوي إِحْدَى العلتين على أصُول. وتنطوي الْأُخْرَى على وَاحِد.
فَمنهمْ من جعل كَثْرَة الْأُصُول بِمَنْزِلَة كَثْرَة الروَاة فِي الحَدِيث، وَقد ذكرنَا فِي ذَلِك اخْتلَافهمْ. وَمِنْهُم من لم يرجح بِكَثْرَة الْأُصُول. وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ القَاضِي.
فَإِن أَعْيَان الْأُصُول من الطَّرِيقَة الْوَاحِدَة فَلَا شكّ فِيهِ.
وَلَو قَاس على أصل بِوَجْه وَاحِد، فَكَذَلِك لَا يُوجب تَرْجِيحا. فَإِن الدَّلِيل هُوَ مَا نَصبه عِلّة اتَّحد أَو تعدد.
ثمَّ الَّذين جعلُوا عدد الْأُصُول تَرْجِيحا، اخْتلفُوا فِيهِ إِذا كثرت تعدد الْأَوْصَاف أولى من التَّمَسُّك بِعَدَد الْأُصُول.
فالأكثرون صَارُوا إِلَى عدد الْأَوْصَاف أولى فَإِنَّهَا الْعِلَل. وَالْأُصُول هِيَ الْمحَال الَّتِي تطلب مِنْهَا الْعِلَل. فأنفس الْعِلَل أولى من محالها.
وَمِمَّا خَاضُوا فِيهِ أَن إِحْدَى العلتين إِذا كَانَت مركبة من أَوْصَاف وَالْأُخْرَى ذَات وصف فالأكثرون صَارُوا إِلَى أَن مَا يتحد وَصفه أولى لِأَنَّهُ يقل فِيهِ الِاجْتِهَاد وتكثر فروعه. فينطوي على زِيَادَة الحكم، ويضاهي علل الْعقل.
وَمِنْهُم من قَالَ: لَا فرق بَينهمَا وَلَعَلَّه الصَّحِيح. فَإِن سَبِيل الْعِلَل السمعية سَبِيل الأمارات وَيجوز تَقْدِير وصفين أَمارَة. كَمَا يجوز ذَلِك فِي الْوَصْف الْوَاحِد.
وَأما زِيَادَة الحكم فقد ذكرنَا أَنه لَا مَعْلُول عَلَيْهِ.
وَأما مضاهاة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فَلَا أصل لَهُ فَإِن السمعية لَا تضاهي الْعَقْلِيَّة قطّ. فَتدبر ذَلِك.
وَمن النَّاس من قدم المركبة على ذَات وصف. وَهَذَا بعيد جدا.
وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ أَن يكون لفظ عَام عَن صَاحب الشَّرِيعَة، واشتملت الْمَسْأَلَة على علتين إِحْدَاهمَا مخصصة، وَالْأُخْرَى مبقية للْعُمُوم فَمنهمْ من جعل المخصصة أولى وَمِنْهُم من جعل المستديمة للْعُمُوم أولى. وَهَذَا هُوَ الأولى عندنَا. فَإِنَّهَا تَتَضَمَّن تبقية ظَاهر على حَقِيقَته.
وَمِمَّا خَاضُوا فِيهِ أَيْضا أَن تشْتَمل إِحْدَى العلتين على إِيجَاب وَالْأُخْرَى على ندب. فَمنهمْ من قَالَ: الْمُوجبَة أولى، لاشتمالها على زِيَادَة. وَهَذَا فِيهِ نظر. فَإنَّا ذكرنَا أَن الاشتمال على زِيَادَة لَا يرجح بِهِ على الْوُجُوب لَيْسَ معنى النّدب وَزِيَادَة بل هُوَ حكم على حياله كالندب.
وَمِمَّا يذكر فِي التَّرْجِيح أَن تَتَضَمَّن إِحْدَى العلتين النَّقْل عَن حكم الْعقل، عِنْد من يرى أَن الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع على حل أَو حظر. فَمنهمْ من جعل الناقلة أولى. وَمِنْهُم من جعل المبقية أولى. وَهَذَا فَاسد. لما ندل عَلَيْهِ أَن من الْأَحْكَام مَا لَا يسْتَدرك قبل وُرُود الشَّرَائِع عقلا.
وَاعْلَم أَن طرق التَّرْجِيح لَا تَنْحَصِر. فَإِنَّهَا تلويحات تجول فِيهَا الاجتهادات، ويتوسع فِيهَا من توسع فِي فن الْفِقْه.

.كتاب الِاجْتِهَاد:

.القَوْل فِي تصويب الْمُجْتَهدين وَذكر وُجُوه الْخلاف فِيهِ:

اعْلَم، وفقك الله أَن مَا يجْرِي فِيهِ كَلَام الْعلمَاء يَنْقَسِم إِلَى الْمسَائِل القطعية وَإِلَى الْمسَائِل المجتهدة الْعَارِية عَن أَدِلَّة الْقطع.
فَأَما الْمسَائِل القطعية فتنقسم إِلَى الْعَقْلِيَّة والسمعية فَأَما الْعَقْلِيَّة فَهِيَ الَّتِي تنتصب فِيهَا أَدِلَّة الْقطع على الِاسْتِقْلَال وتفضى إِلَى الْمطلب من غير افتقار إِلَى تَقْدِير الشَّرْع، وَذَلِكَ مُعظم مسَائِل العقائد نَحْو إِثْبَات حدث الْعَالم، و إِثْبَات الْمُحدث و قدمه وَصِفَاته، وتبيين تنزيهه عَمَّا تلْزم فِيهِ مضاهاة الْحَوَادِث، وَإِثْبَات الْقدر وَإِثْبَات جَوَاز الرُّؤْيَة، وَإِبْطَال القَوْل بِخلق الْقُرْآن، وَتَحْقِيق قدم الْإِرَادَة. إِلَى غير ذَلِك من الْأُصُول.
وَأما الشَّرْعِيَّة فَكل مَسْأَلَة، تنطوي على حكم من أَحْكَام التَّكْلِيف مَدْلُول عَلَيْهَا بِدلَالَة قَاطِعَة، من نَص أَو إِجْمَاع.
وَقد اخْتلفت عِبَارَات أصحابنَا، إِذْ سئلوا عَن تَحْدِيد مسَائِل الْأُصُول.
فَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، عِبَارَات فِي مصنفاته، فَقَالَ فِي بَعْضهَا: حد الأَصْل مَا لَا يجوز وُرُود التَّعَبُّد فِيهِ إِلَّا بِأَمْر وَاحِد. فيندرج تَحت هَذَا الْحَد مسَائِل الِاعْتِقَاد. وَتخرج عَنهُ مسَائِل الشَّرْع أجمع قطعيها ومجتهدها.
وَقَالَ مرّة أُخْرَى: حد الأَصْل: مَا يَصح من النَّاظر العثور فِيهِ على الْعلم من غير تَقْدِير وُرُود الشَّرْع وزينت فِي هَذَا الْكتاب مَا ذكره فِي كتبه.
وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَن يحد بهَا وأمثالها أصُول الدّين. إِذْ يدْخل عَلَيْهَا وجوب معرفَة الله تَعَالَى وَمَعْرِفَة صِفَاته، وَوُجُوب معرفَة النُّبُوَّة. وَوُجُوب معرفَة هَذِه الْأُصُول، من أصُول الدّين. فَلَا سَبِيل إِلَى إِلْحَاق هَذَا الْقَبِيل بمسائل الْفُرُوع. مَعَ علمنَا بِأَن الْوُجُوب لَا يثبت إِلَّا شرعا فَبَطل من هَذَا الْوَجْه حصر مسَائِل الْأُصُول فِي العقليات وَكَذَلِكَ يجوز تَقْدِير نسخ وجوب الْمعرفَة عندنَا لِأَن مَا ثَبت أَصله بِالشَّرْعِ يجوز فِيهِ تَقْدِير النّسخ.
فالحد الصَّحِيح الَّذِي عول عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ من أصُول الدّين أَن قَالَ: كل مَسْأَلَة يحرم الْخلاف فِيهَا مَعَ اسْتِقْرَار الشَّرْع وَيكون مُعْتَقد خِلَافه جَاهِلا، فَهِيَ من الْأُصُول سَوَاء استندت إِلَى العقليات، أَو لم تستند إِلَيْهَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: فالعقليات الَّتِي يتَكَلَّم فِيهَا أَرْبَاب الْكَلَام، وَيَقَع الِاسْتِقْلَال بذواتها فِي العقائد، تعد من الْأُصُول، وَلَا يتَحَقَّق فِيهَا تَحْرِيم الْخلاف.
قُلْنَا: إِن كَانَت منوطة بقاعدة من قَوَاعِد الدّين. فَإِن كَانَت من الدقائق فَيحرم الْخلاف فِيهَا. وَإِن كَانَت لَا تتَعَلَّق بِشَيْء من الْقَوَاعِد فَلَا تعد من أصُول الدّين. وَإِنَّمَا اعتبارنا بأصول الدّين.
فَإِذا عرفت مَا هُوَ الأَصْل فَلَا تقل فِيمَا هَذَا سَبيله إِن كل مُجْتَهد مُصِيب بل الْمُصِيب وَاحِد وَمن عداهُ جَاهِل مُخطئ. وَهَذَا مَا صَار إِلَيْهِ كَافَّة الْأُصُولِيِّينَ،........
إِلَّا عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري. فَإِنَّهُ ذهب إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْأُصُول كَمَا أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْفُرُوع.
ثمَّ اخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ فَقَالَ فِي أشهر الرِّوَايَتَيْنِ: أَنا أصوب كل مُجْتَهد فِي الدّين تجمعهم الْملَّة، و أما الْكَفَرَة فَلَا يصوبون.
وغلا بعض الروَاة عَنهُ نصوب الكافة من الْمُجْتَهدين دون الراكنين إِلَى الْبِدْعَة والمعرضين عَن أَمر الِاجْتِهَاد.
وَحَقِيقَة مذْهبه تبين فِي الْخلاف.
فَهَذَا بَيَان أحد الْقسمَيْنِ وَهُوَ مسَائِل الْأُصُول.
فَأَما مسَائِل الْفُرُوع فَنَذْكُر حَدهَا أَولا.
وَأَصَح مَا يُقَال فِيهَا أَن نقُول: كل حكم فِي أفعال الْمُكَلّفين، لم تقم عَلَيْهِ دلَالَة عقل وَلَا ورد فِي حكمه الْمُخْتَلف فِيهِ، دلَالَة سمعية قَاطِعَة فَهُوَ من الْفُرُوع.
فَإِن اخْتلفت فِيهِ الْعلمَاء فِي مباينة اجتهادهم، فَمَا حكمهم فِي التصويب والتخطئة؟ فَأَما نفاة الْقيَاس فقد قطعُوا، بِأَن الْمُصِيب وَاحِد عينوه .
وَزَعَمُوا أَن من أَخطَأ الْحق الْمعِين فَهُوَ مأثوم مأزور! وَلم يقل بِهَذَا الْمَذْهَب من القائسين إِلَّا الْأَصَم وَبشر المريسي فَإِنَّهُمَا زعما أَن الْمُصِيب وَاحِد وَأَن الْمَطْلُوب وَاحِد وَمن تعداه مأثوم.
وَصَارَ كَافَّة الْعلمَاء إِلَى نفي الْإِثْم والحرج فِي مسَائِل الْفُرُوع. وَاخْتلفُوا بعد ذَلِك فِي التصويب.
فَأَما الشَّافِعِي رَحمَه الله، فَلَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَة نَص على التَّخْصِيص لَا نفيا وَلَا إِثْبَاتًا. وَلَكِن اخْتلفت النقلَة عَنهُ و المستنبطون من قضايا كَلَامه .
فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنه يَقُول: الْمُصِيب وَاحِد.
ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ. فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه كَانَ يَقُول: الْمُجْتَهد كلف الِاجْتِهَاد والعثور على الْحق، وَنصب لَهُ الدَّلِيل المفضي إِلَى الْعلم بِمَا كلف فَإِن أَصَابَهُ فَلهُ أَجْرَانِ. وَإِن أخطأه فالوزر محطوط عَنهُ لغموض الدَّلِيل.
وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَب صَار مُعظم الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْحق لَا دَلِيل عَلَيْهِ يُفْضِي إِلَى الْعلم بِهِ وَلكنه كالشيء الْمكنون يتَّفق العثور عَلَيْهِ، ويتفق تعديه. وَلَيْسَ على الْعلم بِهِ دَلِيل.
ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ. فَذهب بَعضهم إِلَى أَن العثور عَلَيْهِ مِمَّا يجب على الْمُكَلف وَإِن لم يكن عَلَيْهِ دَلِيل يُفْضِي إِلَى الْعلم.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن العثور عَلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِب. وَإِنَّمَا الْوَاجِب الِاجْتِهَاد وَهَذَا حَقِيقَة مَذْهَب من يَقُول إِن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده.
وَأما أَبُو حنيفَة فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ. وَالَّذِي يَصح عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده، وأحدهم عاثر على الْحق وَالْبَاقُونَ مخطئون فِيهِ، وَكلهمْ على الصَّوَاب فِي الِاجْتِهَاد.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي توضح عندنَا من فحوى كَلَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. وَقد نقل ذَلِك بعض أصحاب الشَّافِعِي عَنهُ صَرِيحًا، وعد نصوصا منبئة عَمَّا قَالَه .
وَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْمُصِيب وَاحِد.
وَذَهَبت طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَن الْمُجْتَهد مَأْمُور بِطَلَب الْأَشْبَه. وَإِلَيْهِ صَار مُحَمَّد بن الْحسن وَأَبُو يُوسُف وَابْن شُرَيْح فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ.
وَلَا يتَبَيَّن الْأَشْبَه إِلَّا بتفصيل. وسنفرد فِيهِ بَابا.
فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب الَّتِي عدت القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين اجْتِهَادًا وَحكما.
وَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُعْتَزلَة قاطبة أَن كل مُجْتَهد مُصِيب اجْتِهَادًا وَحكما. وَمَال شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ إِلَى ذَلِك. وَهُوَ اخْتِيَار القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وكل من انْتَمَى إِلَى الْأُصُول. إِلَّا الْأُسْتَاذ أَبَا إِسْحَاق فَإِنَّهُ صَار إِلَى أَن الْمُصِيب وَاحِد.
وَحكى الطَّبَرِيّ فِي ذَلِك عَن ابْن فورك وَالَّذِي عندنَا أَنه كَانَ يَقُول بتصويب الْمُجْتَهدين.
وَنحن الْآن نرد على الْعَنْبَري أَولا ثمَّ نذْكر شبه الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد ونتفصى عَن جَمِيعهَا ثمَّ نذْكر أدلتنا ثمَّ نفرد بعد ذَلِك ثَلَاثَة أَبْوَاب:
أَحدهَا: فِي الرَّد على من قَالَ: كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده.
وَالثَّانِي: فِي الْقَائِلين بالأشبه.
وَالثَّالِث: فِي القَوْل بالتخيير، مَعَ تصويب الْمُجْتَهدين.

.مَسْأَلَة فِي الرَّد على الْعَنْبَري حَيْثُ قَالَ بتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل الْأُصُول:

فَنَقُول: لَا تَخْلُو من أحد أَمريْن فِي الْمُخْتَلِفين فِي نفي الصِّفَات وإثباتها وَالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن وَقدمه، وَغَيرهمَا من مسَائِل الْأُصُول.
إِمَّا أَن تَقول: كل وَاحِد من المذهبين حق وَهُوَ علم ثَابت مُتَعَلق بالمعلوم على مَا هُوَ بِهِ فَإِن قَالَ ذَلِك، فَهُوَ خُرُوج مِنْهُ إِلَى السفسطة، وَترك الضروريات وَجحد البدائه.
فَإنَّا نعلم بضرورة الْعقل اسْتِحَالَة كَون الشَّيْء قَدِيما حَادِثا ثَابتا منفيا، جَائِزا مستحيلا. فَبَطل الْمصير إِلَى هَذَا الْقسم. وَتبين أَن أحد الْمُجْتَهدين هُوَ الْعَالم بِحَقِيقَة مَا فِيهِ الْكَلَام، وَالثَّانِي جَاهِل.
وَإِن زعمت أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْأُصُول تَعْنِي أَنه لم يُكَلف إِلَّا الِاجْتِهَاد فَأَما العثور على الْحق، فَلم يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف لصعوبة مدركه وَاخْتِلَاف الأمارات وغموض طرق الْأَدِلَّة فَإِن سلك هَذَا المسلك فِي القَوْل بالتصويب، وَقَالَ مَعَ ذَلِك بطرد مذْهبه فِي الْكفْر، فقد انْسَلَّ من الدّين. حَيْثُ عذر الْكَفَرَة فِي الْإِصْرَار على الْكفْر.
فَإِن قَالَ ذَلِك فِي الَّذين تجمعهم الْملَّة، كَانَ الْكَلَام عَلَيْهِ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن نقُول: مَا الَّذِي حجرك عَن القَوْل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد؟ فَإِن تمسك بغموض الْأَدِلَّة قيل لَهُ - فَالْكَلَام فِي النبوات والإحاطة بِصِفَات المعجزات، وتمييزها من المخاريق والكرامات أغمض عَن العارفين بأصول الديانَات من الْكَلَام فِي الْقدر وَغَيره مِمَّا يخْتَلف فِيهِ أهل الْملَّة، فَهَلا عذرت الْكَفَرَة بِمَا ذكرت؟
وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُ عَنهُ.
وَالْوَجْه الآخر من الْكَلَام أَن نقُول: مِمَّا خَاضَ فِيهِ أهل الْملَّة القَوْل بالتشبيه - تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا - وَالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يعظم خطره.
وَقد أجمع الْمُسلمُونَ قبل الْعَنْبَري على أَنه يجب على الْمُسلم إِدْرَاك بطلَان القَوْل بالتشبيه، وَلَا يسوغ الاضراب عَن معرفَة هَذَا وَأَمْثَاله من أصُول الْحَقَائِق. وَمَا قَالَ أحد مِمَّن مضى وَبَقِي إِنَّه لَا تجب معرفَة العقائد على الْحَقِيقَة، بل قَالُوا قاطبة، بِأَن معرفَة العقائد وَاجِبَة على كل مُكَلّف، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى رده. فَبَطل مَا قَالَه من كل وَجه. وَقد ذكرنَا فِي خلال الْكَلَام مَا عَلَيْهِ معول الرجل.

.مَسْأَلَة فِي تصويب الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع:

و قدمنَا ذكر الْمذَاهب، و هَا نَحن الْآن نذْكر شبه الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد. فمما سبق إِلَى التَّمَسُّك بِهِ الْفُقَهَاء الَّذين لَا يحصلون حقائق الْأُصُول أَن قَالُوا: إِذا اخْتلف الْعلمَاء فِي تَحْلِيل وَتَحْرِيم، فَلَو قُلْنَا: إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُصِيب، كَانَ ذَلِك محالا من القَوْل وجمعا بَين متنافيين، فَإِن الشَّيْء الْوَاحِد يَسْتَحِيل أَن يكون حَلَالا حَرَامًا.
وأطنبوا فِيهِ. وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ، يُؤَدِّي إِلَى مقصودهم.
فَيُقَال لَهُم: أول مَا فتحتم بِهِ كلامكم غلط. فَإِن الْعين الْوَاحِدَة لَا تحل وَلَا تحرم إِذْ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم لَا يتعلقان بالأعيان وَإِنَّمَا يتعلقان بِأفعال الْمُكَلّفين، فالمحرم فعل الْمُكَلف فِي الْعين والمحلل فعله فِيهِ. فهما إِذا شَيْئَانِ حرم أَحدهمَا وَحل الثَّانِي فَهَذَا وَجه لمفاتحتهم بالْكلَام.
على أَنا نقُول: لَو تتبعناكم، فَإِنَّمَا المتنافي أَن يحرم الشَّيْء ويحلل على الشَّخْص الْوَاحِد فِي الْحَالة الْوَاحِدَة. وَلَيْسَ هَذَا سَبِيل الْمُجْتَهدين. فَإِن كل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ، وتنزلت الْعين الدائرة فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات بَينهمَا مَعَ اخْتِلَاف اجتهاديهما منزلَة الْعين الْمَمْلُوكَة بَين مَالِكهَا وَغير مَالِكهَا، وَهِي محللة مُحرمَة على غَيره وَكَذَلِكَ الْميتَة بَين الْمُضْطَر وَالْمُخْتَار فَهَذَا أَكثر من أَن يُحْصى. فَبَطل ادِّعَاء التَّنَاقُض.
وَرُبمَا يفْرض من قَالَ إِن الْمُصِيب وَاحِدًا صورا فِي عين دَعْوَى التَّنَاقُض وَنحن نذْكر مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال حَتَّى نستدل بطرق الْجَواب مِنْهَا على أَمْثَالهَا .
فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: إِذا قَالَ للْمَرْأَة زَوجهَا فِي حَال الْغَضَب وَسَأَلته الطَّلَاق أَنْت بَائِن وَالزَّوْج شَافِعِيّ، يعْتَقد أَن الطَّلَاق لَا يَقع بذلك وَالْمَرْأَة حنفية، تعتقد وُقُوع الطَّلَاق.
قَالُوا: فَإِذا زعمتم أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُصِيب، وَلَعَلَّهُمَا كَانَا مجتهدين. فالجمع بَين القَوْل بتصويبهما وتصويبه، يَقْتَضِي الْجمع بَين التسليط على الِاسْتِمْتَاع، وَالْمَنْع مِنْهُ.
فَإِن الرجل متسلط على قَضِيَّة اجْتِهَاده على الِاسْتِمْتَاع. وَمن مُوجب اعْتِقَاده أَنه لَا يجوز لَهَا أَن تَمنعهُ استمتاعا مُبَاحا مِنْهَا لَهُ، وَمن مُوجب اعتقادها التَّحْرِيم وَوُجُوب الِامْتِنَاع وَهَذَا متناقض جدا.
فَأول مَا نفاتحهم بِهِ، أَن نقُول: فَأنْتم معاشر الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد لَا سَبِيل لكم إِلَى إِن تنزل الْمَرْأَة على قَوْله، أَو ينزل الرجل على قَوْلهَا، فَإِنَّكُم لَا تعينون فِي الظَّاهِر الْمُصِيب مِنْهُمَا فَمَا وَجه جوابكم، إِذا عنت هَذِه الْحَادِثَة فَكل مَا قدرتموه جَوَابا ظَاهرا فِي حَقّهمَا فَهُوَ حكم الله تَعَالَى عندنَا ظَاهرا وَبَاطنا.
فَإِن زَعَمُوا أَن الْأَمر بَينهمَا يُوقف إِلَى أَن يرفعا إِلَى حَاكم، فَيَقْضِي عَلَيْهِمَا بِمُوجب اعْتِقَاده قُلْنَا: فالوقف قبل الرّفْع حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا قطعا. وَإِذا رفعا إِلَيْهِ، فَمَا حكم بِهِ القَاضِي، فَهُوَ حكم الله تَعَالَى قطعا وَإِن زَعَمُوا أَن الْمَرْأَة مأمورة بالإمتناع جهدها، وَالرجل مُبَاح لَهُ الطّلب للاستمتاع وَإِن ادى إِلَى قهرها، وَلم يعدوا ذَلِك تناقضا فِي ظَاهر الْجَواب، فَهُوَ الحكم عِنْد الله تَعَالَى وَعِنْدنَا ظَاهرا وَبَاطنا.
وَالْجُمْلَة الكافية فِي ذَلِك حكما وتحقيقا مَا قدمْنَاهُ من أَن كل مَا يقدره الْقَائِلُونَ بِأَن الْمُصِيب وَاحِد فِي أَمْثَال هَذِه الْمسَائِل ويزعمون أَن مَا وَقع مِنْهُم فِي الظَّاهِر، فَهُوَ الحكم عندنَا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن.
وَمِمَّا يتمسكون بِهِ من الصُّور، أَن الْمَرْأَة إِذا نكحت بِغَيْر ولي أَولا ثمَّ زَوجهَا وَليهَا ثَانِيًا، وَالَّذِي تزوج بهَا ثَانِيًا، شَافِعِيّ الْمَذْهَب يعْتَقد بطلَان نِكَاح الأول وَالَّذِي تزوج بهَا أَولا حَنَفِيّ يعْتَقد صِحَة النِّكَاح الأول وَبطلَان الثَّانِي، وَالْمَرْأَة مترددة بَين دعويهما وهما مجتهدان مثلا، فَمَا وَجه تصويبهما فِي الْإِفْضَاء إِلَى تحليلها لَهما وتحريمها عَلَيْهِمَا أَو جمع الْحل وَالتَّحْرِيم فِي حق كل وَاحِد مِنْهُمَا؟
قُلْنَا: فَلَو حدثت هَذِه الْمَسْأَلَة وسئلتم عَنْهَا فبماذا كُنْتُم تفصلون الحكم فِيهَا ظَاهرا. فَكل مَا أوجبتم بِهِ فِي ظَاهر الْأَمر وَلم تعدوه تناقضا، فَهُوَ حكم الله تَعَالَى عندنَا.
وَإِن اجتزيت بِهَذَا الْقدر كَفاك. و إِن أردْت التَّفْصِيل فِي الْجَواب قلت من الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من صَار فِي هَذِه الصُّورَة إِلَى الْوَقْف، حَتَّى يرفع الْأَمر إِلَى القَاضِي كَمَا قدمْنَاهُ فِي الصُّورَة الأولى .
فعلى هَذَا نقُول حكم الله تَعَالَى فِيهَا الْوَقْف ظَاهرا وَبَاطنا حَتَّى يرفع أَمرهمَا إِلَى القَاضِي فينزلهما على اعْتِقَاد نَفسه. فَحكم الله تَعَالَى حِينَئِذٍ عَلَيْهِمَا ذَلِك.
وَمِنْهُم من قَالَ: تسلم الْمَرْأَة إِلَى الزَّوْج الأول، فَإِنَّهُ نَكَحَهَا نِكَاحا يعْتَقد صِحَّته، وَهُوَ السَّابِق بِهِ فَلَا يبعد أَن نقُول: إِن هَذَا هُوَ الحكم.
وَاعْلَم إِن هَذِه الْمَسْأَلَة وأمثالها من المجتهدات، وفيهَا تقَابل
الِاحْتِمَالَات، فيجتهد الْمُجْتَهد فِيهَا عندنَا وَمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، فَهُوَ حق، من وقف أَو تَقْدِيم أَو غَيرهمَا من وُجُوه الْجَواب.
وَقد أَكْثرُوا فِي إِيرَاد الصُّور، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ أكمل الْغنى إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَالَّذِي عول عَلَيْهِ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَسْأَلَة، لما رأى أَن ادِّعَاء التَّنَاقُض فِي الْأَحْكَام لَا وَجه لَهُ فالتزم التَّنَاقُض فِي الْأَدِلَّة. فَقَالَ: لَا تثبت الْأَحْكَام فِي آحَاد الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة إِلَّا بالأدلة، كَمَا لَا يثبت اصل الشَّرِيعَة المتلقاة من تَبْلِيغ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا بالمعجزة الدَّالَّة على صدقه. وَقد اتّفق الْعلمَاء قاطبة على أَن الْأَحْكَام فِي جَوَاز الِاجْتِهَاد تستند إِلَى أَدِلَّة وأمارات.
فَإِذا ثَبت هَذَا الأَصْل فَالَّذِي أداه اجْتِهَاده إِلَى الْحل متمسك بأمارة أَو دلَالَة تعم فِي قضيتها وَلَا تخص هَذَا الْمُجْتَهد بِعَيْنِه، وَكَذَلِكَ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ معتصم بطريقة عَامَّة فِي قضيتها إِذْ لَيْسَ فِي قَضيته دلَالَة من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة اخْتِصَاص لبَعض الْمُجْتَهدين. فَالْقَوْل بتصويبهما فِي الْحل وَالتَّحْرِيم، مَعَ مَا مهدناه من أَنَّهُمَا لَا يثبتان إِلَّا بدلالتين وأمارتين ذهَاب إِلَى تَحْقِيق الأمارتين العامتين وتصحيحهما، وهما متناقضان. وَإِن لم يتناقض الْحل وَالتَّحْرِيم فِي حق رجلَيْنِ.
وَقد انْفَصل بعض من لَا يُحَقّق مَقْصُود هَذِه الْمَسْأَلَة عَن هَذِه الدّلَالَة بِأَن قَالَ: إِنَّمَا يَسْتَقِيم هَذَا إِن لَو قُلْنَا: إِن مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي صور الاجتهادات أَدِلَّة.
وَأما وَقد قدمنَا أَنَّهَا لَيست بأدلة فَلَا يلْزم فِيهَا التَّنَاقُض.
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء. فَإِن التَّنَاقُض فِي الأمارات المنصوبة على الْأَحْكَام كالتناقض فِي الدَّلَائِل الدَّالَّة على مدلولاتها بأنفسها من غير نصب فِيهَا. وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ.
وَطَرِيق الْجَواب عَن ذَلِك، مَا ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي خلل الْأَحْكَام، وَذَلِكَ أَنه قَالَ: إِذا اخْتلف المجتهدان فِي تَعْلِيل الْبر فِي حكم الرِّبَا، فَألْحق أَحدهمَا بِهِ فرعا ونفاه الثَّانِي ومرجعهما إِلَى الِاجْتِهَاد فِي وصف الْبر، فَلَيْسَ فِي وصف الْبر دلالتان دالتان بأنفسهما على النَّفْي وَالْإِثْبَات. ولسنا نقُول أَيْضا إِن صَاحب الشَّرْع نصب فِي الْبر عَلامَة مَعْلُومَة عِنْده وكلفنا العثور عَلَيْهَا أَو نصب فِيهِ أمارتين حَتَّى نقدر الأمارتين المنصوبتين متناقضتين أَو متماثلتين إِذْ لَو قُلْنَا بذلك، كُنَّا قائلين بِطَلَب شَيْء والعثور عَلَيْهِ، سوى الْعَمَل وَهَذَا قَول بِأَن الْحق طلب علم أَو هُوَ طلب الْأَشْبَه، وَنحن نبطل الطريقتين جَمِيعًا فَخرج من ذَلِك أَلا نقدر دلالتين وَلَا أمارتين منصوبتين على الْوَجْه الَّذِي فَرْضه الْمُسْتَدلّ علينا وَلَكِن نقُول: أَمارَة الحكم فِي حق كل وَاحِد غَلَبَة ظَنّه.
كَأَن الرب تَعَالَى جعل غَلَبَة ظن كل مُجْتَهد علما على الحكم بِمُوجب ظَنّه. وَهَذَا مَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ تنَاقض. فَتبين ذَلِك واعلمه فَإِنَّهُ سر الْمَسْأَلَة وَلَا يُحِيط بِهِ إِلَّا من تَأَكد غَرَضه فِيهَا.
وَلَا تبقى بعْدهَا علينا مؤونة، إِلَّا شَيْء وَاحِد. وَهُوَ أَنهم إِن قَالُوا: إِذا زعمتم إِن الَّذِي يتَمَسَّك بِهِ الْمُجْتَهد لَا نقدره أَمارَة مَنْصُوبَة شرعا، فَمَاذَا يَطْلُبهُ الْمُجْتَهد؟ وَلَيْسَ عِنْده فِيمَا يطْلب عِلّة مَنْصُوبَة عِنْد الله تَعَالَى قبل طلبه، وَلَا يتَحَقَّق طلب من غير مَطْلُوب.
وَهَذَا أصعب سُؤال لَهُم. وَلَو قَامَت - للقائل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد - حجَّة لكَانَتْ هَذِه. وَلَا تحسبن ذَلِك تشككا. فَنحْن من القاطعين بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب. وسنتقصى عَن هَذَا السُّؤَال عِنْد ذكرنَا الْأَشْبَه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ فِي الْمَسْأَلَة أَن قَالُوا: إِذا قُلْتُمْ إِن كل مُجْتَهد مُصِيب فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْقَائِل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد، مُصِيب أَيْضا .
وَهَذَا لَا طائل وَرَاءه. فَإنَّا إِنَّمَا نقُول بتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد. وَهَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي نَحن فِيهَا من مسَائِل الْقطع، وَهِي ملتحقة بالقطعيات الَّتِي الْمُصِيب فِيهَا وَاحِد مُتَعَيّن.
وَمِمَّا تمسكوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: إِذا كَانَ مُجْتَهد مصيبا فَمَا فَائِدَة التناظر وَالْحجاج ؟ وَمَا زَالَ الْعلمَاء من عهد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عصرنا يتحاجون. ومطلب كل وَاحِد من المتناظرين دُعَاء خَصمه إِلَى مَا ينصره من الْمذَاهب. فَلَو كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا مَأْمُورا بملازمة اجْتِهَاده، وَهُوَ الْحق عِنْد الله لما كَانَ فِي طرق الْحجَّاج وَالنَّظَر فَائِدَة. وَفِي إِجْمَاع الْعلمَاء على التناظر دَلِيل فَسَاد هَذَا الأَصْل. وأوضحوا ذَلِك أَن قَالُوا: كَمَا وجدناهم يتحاجون فِي أصُول الديانَات فَكَذَلِك سبيلهم فِي الشرعيات، ثمَّ كَانَ نظرهم فِي العقليات لطلب الْعلم بالمنظور فِيهِ فَكَذَلِك سَبِيل النّظر فِي الشرعيات.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل من أوجه: - مِنْهَا أَن نقُول - إِن أَنْتُم زعمتم أَن الْمُصِيب وَاحِد. قيل لكم: فَإِذا اجْتهد الْمُجْتَهد، فأداه اجْتِهَاده إِلَى التَّحْرِيم فَهَل لَهُ فِي ظَاهر الحكم، الْأَخْذ بالتحليل؟ فَيَقُولُونَ فِي جَوَاب ذَلِك أَن لَيْسَ لَهُ مُخَالفَة اجْتِهَاده فِي ظَاهر الْأَمر، والتناظر على زعمكم يتَضَمَّن خلاف ذَلِك. فقد لزمكم مَا ألزمتمونا.
وَالْوَجْه الآخر فِي الْجَواب أَن نقُول: مَا تلزمونه من التناظر. ثَابت إِجْمَاعًا وَمَا ادعيتموه من غَرَض المتناظرين فَأنْتم منازعون فِيهِ. ولسنا نسلم أَن الْعلمَاء إِنَّمَا يتناظرون ليدعو كل وَاحِد مِنْهُم خَصمه إِلَى مذْهبه. فثبتوا ذَلِك! فَفِيهِ أَشد النزاع وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى إثْبَاته. فَإِن تمسكوا بِبَعْض عادات أهل الْعَصْر، قوبلوا بعادات الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. فَإِنَّهُم مَا تنَاظرُوا ليدعو كل صَاحبه إِلَى مذْهبه، وَإِنَّمَا تنَاظرُوا لوجوه . مِنْهَا التَّوَصُّل إِلَى التدرب فِي طرق الِاجْتِهَاد فَإِن التذاكر والتناظر من أقوى المرشدين إِلَيْهِ وَمن فَوَائِد النّظر أَيْضا، العثور على مَا يقطع بِهِ، والبحث عَن النُّصُوص، وَعَما يحل محلهَا.
وإبداء فَوَائِد النّظر تبرع منا، فَلَيْسَ علينا إِلَّا ممانعتهم عَمَّا ادعوهُ من الْغَرَض.
وَلِلْقَوْمِ طرق فِي الِاسْتِدْلَال تتَعَلَّق بالسمعيات. مِنْهَا: أَنهم تمسكوا بقوله تَعَالَى فِي قصَّة دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام {ففهمنها سليمن وكلا ءاتينا حكما وعلما} قَالُوا فَدلَّ الظَّاهِر على أَنَّهُمَا اجتهدا، صلوَات الله عَلَيْهِمَا و وفْق سُلَيْمَان للعثور على الْحق، وَهَذَا الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {ففهمنها سليمن}.
وأكدوا الِاسْتِدْلَال بِأَن قَالُوا كَانَت الْوَاقِعَة من سَائل الْفُرُوع فَإِنَّهَا كَانَت فِي زرع نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم، فأفسدته.
و الْجَواب عَن ذَلِك من أوجه. أَحدهَا أَن نقُول: من أنكر اجْتِهَاد الْأَنْبِيَاء، لم يساعدكم على أَن الْمَسْأَلَة كَانَت اجتهادية وَكَذَلِكَ من نفى الزلل عَن الْأَنْبِيَاء، فينكر ذَلِك أَشد الْإِنْكَار، ثمَّ لَيْسَ فِي ظَاهر الْآيَة دَلِيل خطأ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام، بل فِي ظَاهرهَا مَا يدل على إِصَابَته. فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وكلا ءاتينا حكما وعلما} فقد سقط استدلالهم جملَة. وَأكْثر مَا تنبئ عَنهُ الْآيَة كَونهمَا مصيبين، وَكَون مَا حكم بِهِ سُلَيْمَان أولى وَأحسن. فَإِن طالبونا بعد ذَلِك بِتَأْوِيل الْآيَة، لم تلزمنا إجابتهم بعد مَا بَينا أَنه لَا اعتصام لَهُم فِي الْآيَة.
ثمَّ إِن تبرعنا بالتأويل فَالْوَجْه فِيهِ أَنَّهُمَا صلوَات الله عَلَيْهِمَا اجتهدوا وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا على حكم وَعلم. وَثَبت الحكمان بِمُوجب اجتهاديهما عَلَيْهِمَا السَّلَام عَلَيْهِمَا ثمَّ نسخ حكم دَاوُد بعد ثُبُوته. وَنزل النَّص بتقرير حكم سُلَيْمَان. فَهَذَا وَجه التَّأْوِيل.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا وحسبوه من عمدهم، مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «إِذا اجْتهد الْحَاكِم، فَأصَاب، فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر وَاحِد» قَالُوا: فَثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطأ الْمُجْتَهد وَلَا يتَصَوَّر مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين ثُبُوت خطأ الْمُجْتَهد.
قُلْنَا: هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد، وَالْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة.
ثمَّ نقُول. الْخَبَر مَحْمُول على مَا إِذا اجْتهد وَأَخْطَأ النَّص بعد بذل كنه مجهوده.
فَإِن قَالُوا: فَالَّذِي بذل مجهوده فِي طلب النَّص وَلم يعثر عَلَيْهِ فَحكم الله عنْدكُمْ مُوجب اجْتِهَاده، فَمَا معنى الْخَطَأ؟
قُلْنَا: لَيْسَ الْمَعْنى بالْخَطَأ أَنه أَخطَأ مَا كلف، وَلَكِن الْمَعْنى بِهِ أَنه أَخطَأ النَّص فَلم يصبهُ.
ثمَّ نقُول: ظَاهر الْخَبَر يدل عَلَيْكُم فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثبت الْأجر فِي حق كل وَاحِد من الْمُجْتَهدين. فَالَّذِي أَخطَأ مَا كلف فحط الْوزر عَنهُ أَجْدَر مِنْهُ بِالْأَجْرِ فَترك التَّعَرُّض لحط الْوزر والإفصاح بِإِثْبَات الْأجر، من أبين الْأَدِلَّة على انْتِفَاء الْخَطَأ الَّذِي فِيهِ نزاعنا فَبَطل مَا قَالُوهُ.
فَهَذِهِ جمل عمدهم وَهِي ترشدك إِلَى أَمْثَالهَا.
وَأما أَدِلَّة الْقَائِل بتصويب الْمُجْتَهدين، فقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ طرقا فِي الدَّلِيل وَقد تأملتها فَرَأَيْت بَعْضهَا مفتقرا فِي ثُبُوتهَا إِلَى بعض، وَكَأَنَّهَا فِي التَّحْقِيق أَرْكَان دلَالَة وَاحِدَة فنرى أَن نركب مِنْهَا دلَالَة، ونستقصي فِيهَا وُجُوه الْكَلَام على السَّبِيل الَّتِي اتبعها القَاضِي.
فَنَقُول لمخالفينا: الْحق الَّذِي ادعيتم اتحاده عِنْد الله تَعَالَى لَا تخلون إِمَّا أَن تزعموا أَنا كلفنا العثور عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَن تزعموا أَنه لم يتَعَلَّق بِهِ حكم التَّكْلِيف .
فَإِن زعمتم أَنا لم نكلف العثور عَلَيْهِ فوجوده وَعَدَمه فِي حق الْمُكَلّفين بِمَثَابَة وَاحِدَة إِذْ لَيْسَ هُوَ حَقًا عَلَيْهِم وَهَذَا الْقسم مِمَّا لَا يَقُول بِهِ الْخصم فَلَا فَائِدَة فِي الإطناب.
وَإِن زَعَمُوا أَن الَّذِي هُوَ عِنْد الله تَعَالَى، قد كلفنا العثور عَلَيْهِ وَالْعَمَل بِمُوجبِه وَهُوَ مَذْهَب الْقَوْم، فَهَذَا بَاطِل لأصلين نمهدهما:
أَحدهمَا: إِجْمَاع الْمُسلمين قاطبة على أَن كل مُجْتَهد مَأْمُور بِالْعَمَلِ على قَضيته اجْتِهَاده فَإِذا غلب على ظن أحد الْمُجْتَهدين فِي واقعه الْحل وَغلب على ظن الآخر، التَّحْرِيم فَلَا يسوغ للْمحرمِ الْأَخْذ بِغَيْر مُوجب اجْتِهَاده. وَلَو حاد عَنهُ عصى واقترب إِلَى المأثم فَإِذا تقرر باطلاق الْأمة كَون كل مُجْتَهد مواخذا بِالْعَمَلِ بقضية اجْتِهَاده فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مَا عمل بِهِ حَقًا عِنْد الله تَعَالَى وَإِمَّا أَن لَا يكون كَذَلِك . فَإِن كَانَ حَقًا عِنْد الله تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي نلتمسه، فَلْيَكُن على هَذَا الأَصْل كل وَاحِد من الْمُجْتَهدين مصيبا .
وَإِن زَعَمُوا أَنه يجب عَلَيْهِ الْعَمَل ظَاهرا، وَيجوز أَن يكون مَنْهِيّا عَنهُ عِنْد الله تَعَالَى. فَهَذَا بَاب من الْجَهَالَة، لَا يرتضي الْمُحَقِّقُونَ سلوكه. فَإِن الْأمة أَجمعت على أَن الْمُجْتَهد مَأْمُور بِالْعَمَلِ بقضية اجْتِهَاده، حَتَّى لَو مَال عَنْهَا لنسب إِلَى المأثم وَإِن تغير اجْتِهَاده فِي الثَّانِي. فَكيف تجمع الْأمة على وجوب مَا يجوز كَونه مَنْهِيّا عَنهُ. وَهل هُوَ إِلَّا التَّنَاقُض الَّذِي ادعوهُ علينا فِي صدر شبههم فَهَذَا تمهيد أحد الْأَصْلَيْنِ.
وَأما الأَصْل الثَّانِي فَهُوَ أَن نقُول: إِذا قدرتم وُرُود الْعَمَل بِمُوجب الِاجْتِهَاد حكما و
هُوَ الْحق فَلَا تخلون إِمَّا أَن تزعموا أَنه مِمَّا يعلم، وَإِلَى الْعلم بِهِ سَبِيل، وَقد نصب عَلَيْهِ دَلِيل.
وَأما أَن تَقولُوا: هُوَ مِمَّا أمرنَا بِالْعلمِ بِهِ، وَلَا دَلِيل يفضى إِلَيْهِ.
وَأما أَن تَقولُوا: مَا كلفنا الْعلم بِهِ أصلا.
فَإِن زعمتم أَنا كلفنا الْعلم بِهِ - وَإِلَيْهِ صَار مُعظم الْمُخَالفين - وَزَعَمُوا أَن عَلَيْهِ أَدِلَّة مَنْصُوبَة و لَو تمسك بهَا النَّاظر لأفضت بِهِ إِلَيْهِ، فَهَذَا بَاطِل من أوجه.
أقربها: أَن الْأَدِلَّة فِي المجتهدات الْحكمِيَّة مضبوطة الْأَوْصَاف وَلَيْسَت تَقْتَضِي علما لذواتها، بِخِلَاف أَدِلَّة الْعُقُول، فَإِنَّهَا لَو اقْتَضَت علما لذواتها، لاقتضته من غير نصب. وَقد استقصينا القَوْل فِي ذَلِك فِي أَحْكَام الْقيَاس. فَإِذا بَطل تنزلها منزلَة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة فِي اقتضائها الْعلم لذواتها دلّ على أَنَّهَا إِنَّمَا انتصبت إمارات شرعا ثمَّ نعلم أَنَّهَا فِي قَضِيَّة الشَّرْع لَيست مِمَّا يقطع بهَا إِذْ مِنْهَا خبر الْوَاحِد، وَلَا يسوغ الْقطع بنقله. وَمِنْهَا طرق الأقيسة وَلَا يسوغ الْقطع أَيْضا بِإِصَابَة المستنبط لَهَا على مَنْهَج أصل مخالفينا فَأنى يَسْتَقِيم كَونهَا مفضية إِلَى الْعلم مَعَ التشكك والاسترابة فِي أُصُولهَا. وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ. فَبَطل من هَذَا الْوَجْه مَا ادعوهُ من أَنا كلفنا الْعلم بِالْحَقِّ، و أَن نصب عَلَيْهِ الدَّلِيل المفضي إِلَيْهِ.
وَمِمَّا يبطل ادِّعَاء الْعلم، مَا ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ من أَن الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من التَّابِعين مَا زَالُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد وكل مِنْهُم يزْعم أَن كل مُجْتَهد يتبع اجْتِهَاده وَلَا يسوغ لَهُ الإضراب عَنهُ، وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُم لَا يقطع بِأَن الَّذِي تمسك بِهِ هُوَ الْحق وَالْكل مدعوون إِلَيْهِ وَمن لم يصل إِلَيْهِ فقد أَخطَأ الْحق. وَأكْثر مَا كَانَ يَدعِيهِ الْمُجْتَهد مِنْهُم غَلَبَة الظَّن وترجيح الأمارات.
فَأَما الْقطع، فَلم يصر إِلَيْهِ أحد مِنْهُم وَكَذَلِكَ كل علم مَقْطُوع بِهِ.
فَثَبت بذلك ثبوتا وَاضحا انْتِفَاء الْعلم من المجتهدات، إِذْ لَو كُنَّا كلفنا إِصَابَته لما ذهب عَنهُ من فرطنا، وَلَو ذَهَبُوا عَنهُ كَانُوا متفقين على خلاف الْحق وَلَا تَجْتَمِع الْأمة على الضَّلَالَة، وَالَّذِي يُحَقّق لَك مَا ذكرنَا، أَن أحدا مَا كَانَ يؤثم أصحابه بالعدول عَن الْحق فَلَو كَانَ الْوُصُول إِلَى الْحق متصورا، وَهُوَ وَاجِب لَكَانَ من مَال عَنهُ وحاد عَن إِصَابَته تَارِكًا لواجب يقدر على الْوُصُول إِلَيْهِ، فَلَمَّا لم يؤثم بعض الصَّحَابَة بَعْضًا فِي المجتهدات فَكَذَلِك عُلَمَاء عصرنا، لَا يوثم بَعضهم فِي المجتهدات بَعْضًا على أَنهم قَالُوا من حكم الْوَاجِب أَن يعْصى الْمُكَلف بِتَرْكِهِ.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن النَّاس لما افْتَرَقُوا فِيمَا يَلِيق بالديانات دعوا إِلَى الْحق، طَوْعًا أَو قهرا وَذَلِكَ نَحْو مُخَالفَة الْخَوَارِج وخروجهم على إِمَام الْحق إِلَى غير ذَلِك. فَهَذَا عقد الدّلَالَة على الَّذين قَالُوا: إِنَّا كلفنا فِي المجتهدات الْعلم و نصب لنا عَلَيْهِ دَلِيل.
فَإِن قَالُوا: إِنَّا كلفنا الْعلم، وَلم ينصب عَلَيْهِ دَلِيل يُوصل إِلَيْهِ المتمسك بِهِ فَهَذَا خرق لإِجْمَاع الْأمة وَذَلِكَ أَنهم أَجمعُوا على أَن الْمُكَلف إِنَّمَا يُكَلف الْعلم فِيمَا يتَصَوَّر فِيهِ الِاسْتِدْلَال المفضي إِلَى الْعلم.
على أَن أَرْبَاب التَّحْقِيق قَالُوا من أَحْكَام النّظر: أَن الْعُلُوم تَنْقَسِم إِلَى ضَرُورِيّ وكسبي فَأَما الضَّرُورِيّ فَلَا يفْتَقر فِي حُصُوله إِلَى دَلِيل وَلكنه يحصل بِفعل الله تَعَالَى بديا غير مَقْدُور للْعَبد وَمَا هَذَا سَبيله، لَا يجوز أَن يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ. إِذْ التَّكْلِيف إِنَّمَا يتَعَلَّق بِمَا يدْخل تَحت الْمَقْدُور.
وَأما الكسبي من الْعُلُوم فَلَا يسوغ حُصُوله مَقْدُورًا، إِلَّا أَن يكون مدلولا، إِذْ لَو لم نقل ذَلِك أدّى إِلَى بطلَان ارتباط النّظر بِالْعلمِ. وَهَذَا مِمَّا يستقصى فِي غير هَذَا الْفَنّ، على أَنه مجمع عَلَيْهِ من الْقَوْم. فَبَطل بِمَا ذَكرْنَاهُ أجمع، تَقْدِير علم فِي الْوَاقِعَة سوى الَّذِي يعلم فِي ظَاهر الامر. وَتبين أَن الْحق مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاد كل مُجْتَهد.
وَقد وَجه المخالفون على أصل وَاحِد مِمَّا ذكرنَا أسولة، وَالدّلَالَة تستقل دون ذَلِك الأَصْل. وَذَلِكَ أَنهم سألونا أسولة فِي تمسكنا بِأَن الصَّحَابَة لم يوثم بَعضهم بَعْضًا، وَنحن نذكرها ونتقصى عَنْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى - على أَنا لَا نحتاج إِلَى هَذَا الأَصْل فِي عقد الدّلَالَة.
وَفِيمَا عداهُ غنية. وَلَكِن لَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ شَيْء من أسئلة الْخصم.
فَمَا سَأَلُوهُ أَن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن بَعضهم كَانَ يؤثم بَعْضًا وَلم ادعيتم الْإِجْمَاع فِي ذَلِك. وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنا نعلم قطعا، أَن أَئِمَّة الصَّحَابَة كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْمسَائِل ثمَّ يعظم بَعضهم بَعْضًا وَلَا يستجيز إِطْلَاق اللِّسَان فِي أصحابه بِهِ بل يُبرئهُ عَن كل شين على أَنهم كَانُوا لَا يَغُضُّونَ على مَا لَا يجوز الإغضاء عَلَيْهِ كَيفَ! وَقد كَانُوا يوجبون على كل مُجْتَهد أَن يَأْخُذ بِمُوجب اجْتِهَاده. وَهَذَا ثَابت قطعا فِي مذاهبهم ومذاهب أهل عصرنا. فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك الحكم بالتأثيم؟
ثمَّ نقُول: إِن بعد عَلَيْكُم أَمر الصَّحَابَة، فإجماع أهل الْعَصْر يغنيكم. فَإِن أحدا مِنْهُم لَا يؤثم الْعلمَاء فِي المجتهدات. بل يسوغ لكل مُجْتَهد تتبع اجْتِهَاده بعد أَن لَا يألو جهده .
فَإِن قَالُوا: قد اشْتهر عَن أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التناكر والتغليظ فِي القَوْل فِي المجتهدات، واشتهر عَنْهُم أَيْضا الانتساب إِلَى الْخَطَأ ونسبته. فمما روى فِي ذَلِك. مَا روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ فِي تَوْرِيث الْجد مَعَ الْأَخ: أَلا يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الابْن أَبَا.
وَقَالَ فِي الْعَوْل: من شَاءَ باهلته وَالَّذِي أحصى رمل عالج عددا لم يَجْعَل فِي المَال نصفا وثلثين والمباهلة هِيَ الْمُلَاعنَة من قَوْله (نبتهل) أَي نلتعن.
وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي قصَّة الْمَرْأَة الَّتِي أرسل إِلَيْهَا عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ رَسُوله يَنْهَاهَا عَن "الْفُجُور" وَكَانَت ترتقي سلما، فأجهضت جَنِينهَا لما بلغتهَا الرسَالَة. فَأَشَارَ بعض الصَّحَابَة على عمر رَضِي الله عَنهُ بأنك مؤدب، وَلَا عزم عَلَيْك. فَقَالَ عَليّ عِنْد ذَلِك: إِن اجتهدوا فقد اخطأوا وَإِن لم يجتهدوا فقد غشوك، أرى عَلَيْك الدِّيَة. وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُم بتخطئتهم. وَبَاعَ زيد بن أَرقم عبدا لَهُ بيع الْعينَة. فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَلا أخبروا زيد بن أَرقم، أَنه أبطل جهاده مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لم يثبت.
وَنهى عمر رَضِي الله عَنهُ عَن المغالاة فِي "المهور" وَهُوَ يخْطب فَقَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَة فَقَالَت مَالك تحجر علينا فِي خيرة الله. فَقَالَ عمر صدقت. وكل النَّاس أفقه من عمر. فاعترف على نَفسه بالْخَطَأ.
واشتهر عَن الصَّحَابَة فِي المجتهدات تَجْوِيز الْخَطَأ على أنفسهم. فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فِي كثير مِنْهَا إِن أصبت فَمن الله، وَإِن أَخْطَأت فَمن نَفسِي.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي قصَّة بروع بنت واشق، إِن أصبت فَمن الله وَإِن أَخْطَأت فَمن الشَّيْطَان.
وَهَذِه الْقَبِيل قد اشْتهر عَنْهُم اشتهارا بَينا وَلَا معنى للخطأ فِي المجتهدات مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين.
هَذَا مَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار.
وَأول مَا نفاتحهم، أَن نقُول: كَيفَ يَسْتَقِيم مِنْكُم حمل عادات الصَّحَابَة وشيمهم على خلاف مَا اجْمَعْ عَلَيْهِ أهل الْعَصْر؟ وَقد اجْمَعْ أهل الْعَصْر قاطبة على أَن مسَائِل الِاجْتِهَاد لَا يجْرِي فِيهَا التأثيم وَإِنَّمَا يجْرِي التأثيم فِي أَن يُخَالف الرجل مُوجب اجْتِهَاده وَكَيف يسوغ مَعَ هَذَا الْإِجْمَاع أَن يَقع التأثيم فِي الصَّحَابَة، مَعَ تنزههم عَمَّا يشينهم و يحطهم عَمَّا فَضلهمْ الله تَعَالَى بِهِ . فَتعين بعد ذَلِك علينا وَعَلَيْهِم تتبع مَا ذَكرُوهُ من الْآثَار بالتأويل.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن مَا نقلوا فِيهِ تَغْلِيظ القَوْل مُخْتَلف فِيهِ وَقد اتّفق أهل الْعَصْر على أَنه لَا يجْرِي فِيهِ التَّغْلِيظ مَعَ كَونه مُخْتَلفا فِيهِ.
وَمِمَّا ذكر فِيهِ التَّغْلِيظ بيع الْعينَة. وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن من بَاعَ على الْوَجْه الْمُخْتَلف فِيهِ فَهَذَا لَا يحبط جهاده مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِمَّا يُؤثر فِي التَّغْلِيظ، مسَائِل الْجد. إِذْ رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من أحب أَن يقتحم جراثيم جَهَنَّم فَلْيَتَكَلَّمْ فِي الْجد بِرَأْيهِ وَهَذَا مَتْرُوك الظَّاهِر من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَن التَّكَلُّم فِي الْجد لَا بُد مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَن الْخلاف فِيهِ لَا يحل مَحل تقحم الجراثيم، فقد انْدفع عَنَّا مَا ذكره من التأثيم، حجاجا إِذْ قد بَينا افتقار الْخصم إِلَى التَّأْوِيل وَإِزَالَة الظَّاهِر.
ثمَّ الْكَلَام على مَا ذَكرُوهُ من الْآثَار من أوجه:
أَحدهَا: أَن نقُول إِنَّهَا آحَاد. وَلَا تكَاد أَن تبلغ مبلغ الْقطع. وَالَّذِي تمسكنا بِهِ من اجماع أهل الْعَصْر فِي ترك التأثيم. واجماع الصَّحَابَة قطع لَا ريب فِيهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي من الْكَلَام أَن نقُول: إِن صَحَّ التأثيم وتغليظ القَوْل فِي بعض الصُّور، فَذَلِك لِأَن المغلظ المؤثم اعْتقد أَن الَّذِي جرى الْكَلَام فِيهِ لَيْسَ من المجتهدات وحسبه من القطعيات وَلذَلِك غلظ القَوْل. وَالْأَمر على خلاف مَا قدره فَأَما الَّذِي يتفقون على كَونه مُجْتَهدا، فَيجْمَعُونَ على ترك التأثيم فِيهِ.
فَإِن قَالُوا: فَكيف حسب ابْن عَبَّاس مسئلة الْعَوْل قَطْعِيَّة؟ قُلْنَا: فلسنا نضمن عصمَة ابْن عَبَّاس، وَلَا عصمَة من هُوَ أجل مِنْهُ من الصَّحَابَة. وغرضنا بسياق هَذَا الْكَلَام أَن نصرف التَّغْلِيظ عَن المجتهدات فتدبرها .
وَأما مَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار المنطوية على الانتساب إِلَى الْخَطَأ وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ، فَلَيْسَ يَلِيق بِمَا اصلناه من كفهم عَن التأثيم وَلَكِن إِنَّمَا تمسكوا بِهِ بديا فَنَقُول: لَا معتصم فِيهَا فَإِنَّهَا آحَاد. وَهِي مَعَ ذَلِك عرضة للتأويل.
وَأما مَا تعلقوا بِهِ من النَّقْل من قَول بَعضهم، إِن أَخْطَأت فَمن نَفسِي، فَمَعْنَاه إِن أَخْطَأت نصا لم يبلغنِي، وَلَيْسَ الْمَعْنى بِهِ الْخَطَأ فِيمَا كلف.
وَمَا روى عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ من الِاعْتِرَاف بالْخَطَأ فِي المغالاة فِي الْمهْر فَهُوَ على وَجهه. فَإِن ظَاهر نَهْيه رَضِي الله عَنهُ فِي خلال الْخطْبَة على مَلأ من الصَّحَابَة يُنبئ عَن الزّجر والردع وَفِيه الْإِفْضَاء إِلَى تَحْرِيم الْمُبَاح مَعَ مهابة عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْقُلُوب فَلَمَّا صدر مِنْهُ النَّهْي الْمُطلق، رأى استدراكه وَالِاعْتِرَاف على نَفسه.
وَمَا روى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَهُوَ بصدد التَّأْوِيل أَيْضا. فَإِنَّهُ قَالَ: إِن اجتهدوا فقد أخطاوا. مَعْنَاهُ: أخطأوا وَجه الرَّأْي الَّذِي أبديته ورأيته وَلَيْسَ الْمَعْنى أَنهم أخطأوا مَا كلفوا.
فَهَذَا وَجه مَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار. فقد نجزت الدّلَالَة الَّتِي عقدناها .
وَالْأولَى عندنَا إِذا خضت فِي الِاسْتِدْلَال أَن تقسم الْكَلَام على خصمك فَتَقول: فتصويب الْمُجْتَهدين عنْدك مِمَّا يَسْتَحِيل الْمصير إِلَيْهِ عقلا، أَو هُوَ مِمَّا يمْتَنع شرعا، فان قَالَ: هُوَ مِمَّا يَسْتَحِيل عقلا فقد ألحق جَائِزا بالمحالات. فَإِن الَّذِي صَار إِلَيْهِ المصوبون لَو قدر وُرُود الشَّرْع بِهِ، لم يسْتَحل. فَإِن الرب تَعَالَى لَو قَالَ: آيَات احكامي على الْمُكَلّفين غلبات ظنونهم فَمن غلب على ظَنّه شَيْء فَالْعَمَل بِمُوجبِه حكمي عَلَيْهِ . فَهَذَا لَا يعد من المستحيلات.
فَإِن عَادوا وتمسكوا فِي تَحْقِيق الاستحالة بِمَا ادعوهُ من طرق المناقضات، فَالْجَوَاب عَنْهَا هَين على مَا سبق.
وَإِن زَعَمُوا أَن ذَلِك لَا يَسْتَحِيل عقلا، وَإِنَّمَا يمْتَنع شرعا فنقيم عَلَيْهِم الدّلَالَة الَّتِي سبقت، حِينَئِذٍ. وَإِنَّمَا رَأينَا هَذَا التَّقْسِيم لِأَن الْمُخَالفين يتسرعون إِلَى ادِّعَاء اسْتِحَالَة تصويب الْمُجْتَهدين عقلا، حَتَّى إِذا سلكوا هَذَا الْمنْهَج هان الْكَلَام عَلَيْهِم، وَإِن ردوا الْأَمر إِلَى الشَّرْع تمسكا
بِالدّلَالَةِ السَّابِقَة.
نجز الْكَلَام على الْقَائِلين بِأَن الْمُجْتَهد مَأْمُور بالعثور على الْحق وَأَن الْمُصِيب من الْمُجْتَهدين وَاحِد . وَبَقِي علينا الْكَلَام فِي ثَلَاثَة فُصُول:
أحدها: فِي الرَّد على من قَالَ: كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده.
وَالثَّانِي: تَفْصِيل القَوْل فِي الْأَشْبَه. وَالثَّالِث: القَوْل بالتخيير إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين عِنْد تقَابل الأمارات.